فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الطلاق:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم)
(بسم الله) اسم من لا سبيل إلى وصاله، ولاغية في غيره، عن فعاله، اسم من علمه وقع في كل سكون وراحة، اسم من عرفه وقع في كل اضطراب وإطاحة، العلماء بسراب علمهم استقلوا فاستراحوا، والعارفون بسلطان حكمه اضطلعوا عن شواهدهم.
فبادروا وطاحوا.
قوله جلّ ذكره: {يا أيُّها النبي إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ لِعدّتِهِنّ وأحْصُوا العِدّة واتّقُوا الله ربّكُمْ...}.
الطلاقُ- وإنْ كان فراقا- فلم يجعله الحقُّ محظورا... وإن كان من وجهٍ مكروها.
وللطلاق وقتية: سُنِّية بِدْعيه، ومباحة، لا سنية ولا بدعية؛ فالسنية: أنْ تطلّق في طُهْرٍ لم تُباشر فيه طلقة واحدة، والبدعية: في حال الحيض وطُهْرٍ جُومعت فيه، والمباحة: في طهر بعد حيض ثم يطلقها من قبل أن يجامعها- والطلاق أكثر من واحدة.
والعِدّةُ- وان كانت في الشريعة لتحصين ماء الزوج محاماة على الأنساب لئلا يدخل على ماء الزوج ماءُ آخر- فالغالبُ والأقوى في معناها أنها للوفاء للصحبة الماضية في وصلة النكاح.
والإشارة في لآيات التالية إلى انه بعد أن انتهت الوصلة فلا أقلّ من الوفاء مدة لهذه الصغيرة التي لم تحِضْ، وهذه الآيسة من الحيض، وتلك التي انقطع حيْضُها، والحُبْلى حتى تلد.. كل ذلك مراعاة للحرمة: وعِدّةُ الوفاة تشهد على هذه الجملة في كونها أطول؛ لأن حُرْمة الميت أعظم وكذلك الإمداد في أيام العِدّة... المعنى فيه ما ذكرنا من مراعاة الوفاء والحرمة.
قوله جلّ ذكره: {وتِلْك حُدُودُ الله ومنْ يتعدّ حُدُود الله فقدْ ظلم نفْسهُ}.
العبوديةُ: الوقوف عند الحدِّ، لا بالنقصان عنه ولا بالزيادة عليه، ومنْ راعى مع الله حدّه أخلص الله له عهْده... {لا تدْرِى لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا}.
قالوا: أراد ندما، وقيل: ولدا، وقيل: ميْلا إليها، أولها إليه؛ فإن القلوب تتقلب.
والإشارة في إباحة الطلاق إلى أنه إذا كان الصبرُ مع الأشْكال حقّا للحرمة المتقدمة فالخلاصُ من مُساكنة الأمثال، والتجرُّدُ لعبادة الله تعالى أوْلى وأحقُّ.
قوله جلّ ذكره: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ}.
إذا صدق العبدُ في تقواه أخرجه من بين أشغاله كالشعرة تُخْرجُ من بين العجِين لا يعْلقُ بها شيءٌ. ويضربُ الله تعالى على المُتّقِي سرادقاتِ عنايته، ويُدْخِلُه في كنف الإيواء، ويصْرِفُ الأشغال عن قلبه، ويُخْرِجُه من ظلمات تدبيره، ويُجرِّدُه من كل أمر، وينقله إلى فضاء تقديره.
قوله جلّ ذكره: {ومن يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ}.
لم يقل: ومنْ يتوكل على الله فتوكُّلُه حسْبُه، بل قال: {فهُو حسْبُهُ}؛ أي فالله حسْبُه أي كافيه.
{إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا}.
إذا سبق له شيءٌ من التقدير فلا محالة يكون، ويتوكُّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنّ التوكّل بنيانه على أنْ العبدُ مُروّح القلب غير كارهٍ... وهذا من أجلِّ النِّعم.
قوله: {واللاّئِى يئِسْن مِن الْمحِيضِ}... إلى قوله: {يجْعل لّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا}
التوكلُ: شهود نفْسِك خارجا عن المُنّة تجري عليك أحكامُ التقديرِ من غير تدبيرٍ منك ولا اطّلاعٍ لك على حُكمِه، وسبيلُ العبدِ الخمودُ والرضا دون استعلام الامر، وفي الخبر: «اعوذ بك من عِلْمٍ لا ينفع» ومن العلم الذي لا ينفع- ويجب أنْ تستعيذ منه- أن يكون لك شُغْلٌ أو يستقبلك مُهِمٌّ من الأمر ويشتبه عليك وجهُ التدبيرِ فيه، وتكون مُطالبا بالتفويض- فطلبُك العلم وتمنِّيك أنْ تعرف متى يصلح هذا الأمرُ؟ ولأي سببٍ؟ ومِنْ أيِّ وجهٍ؟ وعلى يد منْ؟... كل هذا تخليطٌ، وغيرُ مُسلّمٍ شيءٌ منه للأكابر.
فيجب عليك السكونُ، وحُسْنُ الرضا. حتى إذا جاء وقتُ الكشْف فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينتظر العبدُ في هذه الحالة تعريفا في المنام أو ينظر في الجامع، أو يرجو بيان حاله بأن يجري على لسان مستنطق في الوقت.. كلُّ هذا ترْكٌ للأدب، والله لا يرْضى بذلك من أوليائه، بل الواجبُ السكونُ.
قوله جلّ ذكره: {لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مِّن سعتِهِ ومن قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنفِقْ ممآ ءاتاهُ الله لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلاّ مآ ءاتاها}.
إذا اتسع رزقُ العبد فعلى قدْرِ المُكنةِ يُطالبُ بالإعطاء والنفقة فمن قدر عليه رزقه- أي ضيِّق- فينفق مما آتاه الله أي من متاع البيت، ومن رأسِ المال- إن لم يكن من الربح، ومن ثمنِ الضيعة- إن لم يكن من الغلّة.
ومنْ ملك ما يكفيه للوقت، ثم اهتمّ بالزيادة للغد فذلك اهتمامٌ غيرُ مرضيٍّ عنه، وصاحبُه غير مُعان. فأمّا إذا حصل العجزُ بكلِّ وجهٍ، فإن الله تعالى: {لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلاّ مآ ءاتاها} وسيجعل الله بعد عسرٍ يسرا. هذا من أصحاب المواعيد- وتصديقه على حسب الإيمان، وذلك على قدْرِ اليقين- ويقينه على حسب القِسْمة. وانتظارُ اليُسْرِ من الله صفة المتوسطين في الاحوال، الذين انحطُّوا عن حدِّ الرضا واستواءِ وجودِ السبب وفقْدِه، وراتقوا عن حدِّ اليأس والقنوط، وعاشوا في أفياء الرجال يُعللون بحُسْنِ المواعيد... وأبدا هذه حالتهم وهي كما قلنا:
إنْ نابك الدهرُ بمكروهه ** فعِشْ بتهوين تصانيفه

فعنْ قريبٍ ينجلي غيْمُه ** وتنقضي كلُّ تصاريفه

قوله جلّ ذكره: {وكأيِّن مِّن قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربِّها ورُسُلِهِ فحاسبْناها حِسابا شدِيدا وعذّبْناها عذابا نُّكْرا فذاقتْ وبال أمْرِها وكان عاقِبةُ أمْرِها خُسْرا}.
منْ زرع الشوك لم يجْن الورد، ومنْ أضاع حقّ الله لا يُطاع في حظِّ نفْسه. ومن اجترأ بمخالفةِ أمرِ الله فليصبِر على مقاساة عقوبة الله.
قوله جلّ ذكره: {قدْ أنزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا رّسُولا يتْلُواْ عليْكُمْ ءاياتِ الله مُبيِّناتٍ لِّيُخْرِج الّذِين ءامنُواْ وعمِلُواْ الصّالِحاتِ مِن الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ}.
إنّ كتاب الله فيه تبيانٌ لكلِّ شيءٍ... فمنْ استضاء بنوره اهتدى، ومنْ لجأ إلى سعة فنائه وصل من داءِ الجهل إلى شِفائه.
ومنْ يؤمِنْ بالله، ويعملْ صالحا لله، وفي الله، فله دوامُ النُّعمى من الله... قال تعالى: {قدْ أحْسن الله لهُ رِزْقا}.
والرزقُ الحسنُ ما كان على حدِّ الكفاية؛ لا نقصان فيه تتعطّلُ الأمورُ بسببه، ولا زيادة فيه تشْغلُه عن الاستمتاع بما رُزِق لِحْرصِه.
كذلك أرزاقُ القلوبِ. أحسنُها أن يكون له من الأحوال ما يشتغل به في الوقت؛ من غير نقصانٍ يجعله يتعذّب بتعطُّشِه، ولا تكون فيه زيادة فيكون على خطرٍ من مغاليط لا يخْرُجُ منها إلاّ بتأييدٍ سماويٍّ من الله.
{الله الّذِي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ يتنزّلُ الْأمْرُ بيْنهُنّ لِتعْلمُوا أنّ الله على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ وأنّ الله قدْ أحاط بِكُلِّ شيْءٍ عِلْما (12)}
خلق سبع سمواتٍ، وخلق ما خلق وهو مُحِقٌّ فيما خلق وأمر، حتى نعلم استحقاق جلالهِ وكمال صفاته، وأنه أمضى فيما قضى حُكما، وأنه أحاط بكل شيء علما. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

وأمّا قولهُ: {ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} فقدْ بيّن فِيها أنّ الْمُتّقِي يدْفعُ الله عنْهُ الْمضرّة بِما يجْعلُهُ لهُ مِنْ الْمخْرجِ ويجْلِبُ لهُ مِنْ الْمنْفعةِ بِما يُيسِّرُهُ لهُ مِنْ الرِّزْقِ والرِّزْقُ اسْمٌ لِكُلِّ ما يُغْتذى بِهِ الْإِنْسانُ؛ وذلِك يعُمُّ رِزْق الدُّنْيا ورِزْق الْآخِرةِ. وقدْ قال بعْضُهُمْ: ما افْتقر تقِيٌّ قطُّ قالوا: ولِم؟ قال: لِأنّ الله يقول: {ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ}. وقول الْقائِلِ: قدْ نرى منْ يتّقِي وهُو محْرُومٌ. ومنْ هُو بِخِلافِ ذلِك وهُو مرْزُوقٌ. فجوابُهُ: أنّ الْآية اقْتضتْ أنّ الْمُتّقِي يُرْزقُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ ولمْ تدُلّ على أنّ غيْر الْمُتّقِي لا يُرْزقُ؛ بلْ لابد لِكُلِّ مخْلُوقٍ مِنْ الرِّزْقِ قال الله تعالى: {وما مِنْ دابّةٍ فِي الْأرْضِ إلّا على الله رِزْقُها} حتّى إنّ ما يتناولُهُ الْعبْدُ مِنْ الْحرامِ هُو داخِلٌ فِي هذا الرِّزْقِ فالْكُفّارُ قدْ يُرْزقُون بِأسْبابِ مُحرّمةٍ ويُرْزقُون رِزْقا حسنا وقدْ لا يُرْزقُون إلّا بِتكلُّفِ وأهْلُ التّقْوى يرْزُقُهُمْ الله مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُون ولا يكُونُ رِزْقُهُمْ بِأسْبابِ مُحرّمةٍ ولا يكُونُ خبِيثا والتّقِيُّ لا يُحْرمُ ما يحْتاجُ إليْهِ مِنْ الرِّزْقِ وإِنّما يُحْمى مِنْ فُضُولِ الدُّنْيا رحْمة بِهِ وإِحْسانا إليْهِ؛ فإِنّ توْسِيع الرِّزْقِ قدْ يكُونُ مضرّة على صاحِبِهِ وتقْدِيرهُ يكُونُ رحْمة لِصاحِبِهِ. قال تعالى: {فأمّا الْإِنْسانُ إذا ما ابْتلاهُ ربُّهُ فأكْرمهُ ونعّمهُ فيقول ربِّي أكْرمنِ وأمّا إذا ما ابْتلاهُ فقدر عليْهِ رِزْقهُ فيقول ربِّي أهاننِ كُلّا} أيْ: ليْس الْأمْرُ كذلِك فليْس كُلُّ منْ وُسِّع عليْهِ رِزْقُهُ يكُونُ مُكْرما ولا كُلُّ منْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ يكُونُ مُهانا؛ بلْ قدْ يُوسّعُ عليْهِ رِزْقُهُ إمْلاء واسْتِدْراجا وقدْ يُقدّرُ عليْهِ رِزْقُهُ حِماية وصِيانة لهُ وضِيقُ الرِّزْقِ على عبْدٍ مِنْ أهْلِ الدِّينِ قدْ يكُونُ لِما لهُ مِنْ ذُنُوبٍ وخطايا كما قال بعْضُ السّلفِ: إنّ الْعبْد ليُحْرمُ الرِّزْق بِالذّنْبِ يُصِيبُهُ وفِي الْحديث عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «منْ أكْثر الِاسْتِغْفار جعل الله لهُ مِنْ كُلِّ همٍّ فرجا ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجا ورزقهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ». وقدْ أخْبر الله تعالى أنّ الْحسناتِ يُذْهِبْن السّيِّئاتِ والِاسْتِغْفارُ سببٌ للرِّزْقِ والنِّعْمةِ وأنّ الْمعاصِي سببٌ للمصائِبِ والشّدّةِ فقال تعالى: {الر كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حكِيمٍ خبِيرٍ} إلى قولهِ: {ويُؤْتِ كُلّ ذِي فضْلٍ فضْلهُ} وقال تعالى: {اسْتغْفِرُوا ربّكُمْ إنّهُ كان غفّارا} إلى قولهِ: {ويجْعلْ لكُمْ جنّاتٍ ويجْعلْ لكُمْ أنْهارا} وقال تعالى: {وأنْ لوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ لأسْقيْناهُمْ ماء غدقا} {لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} وقال تعالى: {ولوْ أنّ أهْل الْقُرى آمنُوا واتّقوْا لفتحْنا عليْهِمْ بركاتٍ مِن السّماءِ والْأرْضِ ولكِنْ كذّبُوا فأخذْناهُمْ بِما كانُوا يكْسِبُون} وقال تعالى: {ولوْ أنّهُمْ أقامُوا التّوْراة والْإِنْجِيل وما أُنْزِل إليْهِمْ مِنْ ربِّهِمْ لأكلُوا مِنْ فوْقِهِمْ ومِنْ تحْتِ أرْجُلِهِمْ} وقال تعالى: {وما أصابكُمْ مِنْ مُصِيبةٍ فبِما كسبتْ أيْدِيكُمْ ويعْفُو عنْ كثِيرٍ} وقال تعالى: {ولئِنْ أذقْنا الْإِنْسان مِنّا رحْمة ثُمّ نزعْناها مِنْهُ إنّهُ ليئُوسٌ كفُورٌ} وقال تعالى: {ما أصابك مِنْ حسنةٍ فمِن الله وما أصابك مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نفْسِك} وقال تعالى: {فأخذْناهُمْ بِالْبأْساءِ والضّرّاءِ لعلّهُمْ يتضرّعُون فلوْلا إذْ جاءهُمْ بأْسُنا تضرّعُوا ولكِنْ قستْ قُلُوبُهُمْ وزيّن لهُمُ الشّيْطانُ ما كانُوا يعْملُون}. وقدْ أخْبر الله تعالى فِي كِتابِهِ أنّهُ يبْتلِي عِبادهُ بِالْحسناتِ والسّيِّئاتِ؛ فالْحسناتُ هِي النِّعمُ والسّيِّئاتُ هِي الْمصائِبُ؛ لِيكُون الْعبْدُ صبّارا شكُورا. وفِي الصّحِيحِ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: «والّذِي نفْسِي بِيدِهِ لا يقْضِي الله للمُؤْمِنِ قضاء إلّا كان خيْرا لهُ وليْس ذلِك لِأحدِ إلّا للمُؤْمِنِ إنْ أصابتْهُ سرّاءُ شكر فكان خيْرا لهُ وإِنْ أصابتْهُ ضرّاءُ صبر فكان خيْرا لهُ».
وقال أيْضا:
فصْلٌ:
قال الله تعالى: {ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ ومنْ يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ إنّ الله بالِغُ أمْرِهِ قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا} قدْ رُوِي عنْ أبِي ذرٍّ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: «لوْ أخذ النّاسُ كُلُّهُمْ بِهذِهِ الْآيةِ لكفتْهُمْ» وقولهُ: {مخْرجا} عنْ بعْضِ السّلفِ: أيْ مِنْ كُلِّ ما ضاق على النّاسِ وهذِهِ الْآيةُ مُطابِقةٌ لِقولهِ: {إيّاك نعْبُدُ وإِيّاك نسْتعِينُ} الْجامِعةِ لِعِلْمِ الْكُتُبِ الْإِلهِيّةِ كُلِّها؛ وذلِك أنّ التّقْوى هِي الْعِبادةُ الْمأْمُورُ بِها فإِنّ تقْوى الله وعِبادتهُ وطاعتهُ أسْماءٌ مُتقارِبةٌ مُتكافِئةٌ مُتلازِمةٌ والتّوكُّل عليْهِ هُو الِاسْتِعانةُ بِهِ فمنْ يتّقِي الله مِثالُ: {إيّاك نعْبُدُ} ومنْ يتوكّلُ على الله مِثالُ {إيّاك نسْتعِينُ} كما قال: {فاعْبُدْهُ وتوكّلْ عليْهِ} وقال: {عليْك توكّلْنا وإِليْك أنبْنا} وقال: {عليْهِ توكّلْتُ وإِليْهِ أُنِيبُ}. ثُمّ جعل للتّقْوى فائِدتيْنِ: أنْ يجْعل لهُ مخْرجا وأنْ يرْزُقهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ. والْمخْرجُ هُو موْضِعُ الْخُرُوجِ وهُو الْخُرُوجُ وإِنّما يُطْلبُ الْخُرُوجُ مِنْ الضِّيقِ والشِّدّةِ وهذا هُو الْفرجُ والنّصْرُ والرِّزْقُ فبيّن أنّ فِيها النّصْر والرِّزْق كما قال: {أطْعمهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمنهُمْ مِنْ خوْفٍ} ولِهذا قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وهلْ تُنْصرُون وتُرْزقُون إلّا بِضُعفائِكُمْ؟ بِدُعائِهِمْ وصِلاتِهِمْ واسْتِغْفارِهِمْ» هذا لِجلْبِ الْمنْفعةِ وهذا لِدفْعِ الْمضرّةِ. وأمّا التّوكُّلُ فبيّن أنّ الله حسْبُهُ أيْ كافِيهِ وفِي هذا بيانُ التّوكُّلِ على الله مِنْ حيْثُ إنّ الله يكْفِي الْمُتوكِّل عليْهِ كما قال: {أليْس الله بِكافٍ عبْدهُ}؟ خِلافا لِمنْ قال: ليْس فِي التّوكُّلِ إلّا التّفْوِيضُ والرِّضا. ثُمّ إنّ الله بالِغُ أمْرِهِ ليْس هُو كالْعاجِزِ. {قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا} وقدْ فسّرُوا الْآية بِالْمخْرجِ مِنْ ضِيقِ الشُّبُهاتِ بِالشّاهِدِ الصّحِيحِ والْعِلْمِ الصّرِيحِ والذّوْقِ. كما قالوا يُعلِّمُهُ مِنْ غيْرِ تعْلِيمِ بشرٍ ويُفطِّنُهُ مِنْ غيْرِ تجْرِبةٍ؛ ذكرهُ أبُو طالِبٍ الْمكِّيُّ كما قالوا فِي قولهِ: {إنْ تتّقُوا الله يجْعلْ لكُمْ فُرْقانا} إنّهُ نُورٌ يُفرِّقُ بِهِ بيْن الْحقِّ والْباطِلِ كما قالوا: بصرا والْآيةُ تعُمُّ الْمخْرج مِنْ الضِّيقِ الظّاهِرِ والضِّيقِ الْباطِنِ قال تعالى: {فمنْ يُرِدِ الله أنْ يهدِيهُ يشْرحْ صدْرهُ للإِسْلامِ ومنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يجْعلْ صدْرهُ ضيِّقا حرجا كأنّما يصّعّدُ فِي السّماءِ} وتعُمُّ ذوْق الْأجْسادِ وذوْق الْقُلُوبِ مِنْ الْعِلْمِ والْإِيمانِ كما قِيل مِثْلُ ذلِك فِي قولهِ: {ومما رزقْناهُمْ يُنْفِقُون} وكما قال: {أنْزل مِن السّماءِ ماء} وهُو القرآن والْإِيمانُ. اهـ.